كآبة امرأة

                     La Mélancolie D'Une Femme                

 

" لم تكن المرة الأولى التي تمر فيها ليلى بنوبات اكتئاب تسبب لها هبوطا في المزاج، وتثبيطا للمعنويات، وقلقا مستمرا، وخوفا من المستقبل، مصحوبة بصداع عنيف ودوار وتعرق. كانت معتادة على هذه النوبات التي أصبحت ملازمة لحياتها نظرا للفراغ الذي تعيشه والهوة التي تفصل بينها وبين زوجها وتمرد ابنتها الدائم عليها وانتقادها لها. ولم تفلح القصور والملابس الفاخرة والسفر والإقامة في الفنادق الكبيرة وهدايا الذهب التي يقدمها لها زوجها في المناسبات وتأتيها من أصدقاء زوجها وعملائه في الحد من هذه النوبات.

لكن النوبة هذه المرة كانت أشد وقعا عليها فقد أصبحت تحس إلى جانب الكآبة بدوار وغثيان وتسارع في ضربات القلب وزغللة في العينين وتنميل في القدمين وسرعة الانفعال والعصبية وسخونة في الجسم. ربط الطبيب ذلك بسن انقطاع الدورات الشهرية وما يسميه بعضهم بسن النضج أو الحكمة بدلا من الاصطلاح الذي يدعو إلى الكآبة وهو سن اليأس . كانت تمر بمرحلة عصيبة ولم يكن أحد يقدر ما تعانيه. وقد كثرت المشاحنات بينها وبين ابنتها في هذه الفترة، وكان انتقاد ابنتها الحاد لها وتمردها عليها يزيد من كآبتها. وحين دخلت إلى غرفتها بعد آخر شجار مع ابنتها أرخت العنان لدموعها، لكن هذه الدموع لم تستطع أن تغسل همومها. تذكرت فجأة حبيبها وأبو ابنتها الأخضر صلاح الدين الذي أحبته بإخلاص فغدر بها بعد أن تعاهدا على الزواج رغم رفض أبيها. لكنه تخلى عنها وتركها ولم يعرف أنها حامل بابنته. اضطرت إلى الزواج من مصباح وأخفت عنه حملها. وحين ولدت ليندا بعد سبعة أشهر أقنعته بالاتفاق مع طبيبها بأن البنت "سبيعية" ولكنه ظل يشك في الأمر. هي لم تصارح زوجها حفاظا على ابنتها وليكون مصباح لها أبا بدلا من والدها الذي تخلى عنها.

كانت كل يوم تزداد إحساسا بالعزلة والوحدة. انقطعت الخيوط التي كانت تربطها بهذا العالم وتجعل الحياة ممكنة. انقطعت خيوط القرابة والحب والصداقة . كان الخيط الذي يربطها بأبيها بعد وفاة أمها واهيا بعد أن رفض تزويجها ممن تحب وسلمها لهذا الرجل. وظل هذا الخيط يضعف ويضعف حتى أصبح أوهى من خيط العنكبوت ثم انقطع فجأة بعد أن تزوج أبوها بفتاة في مثل سنها، فأنسته حتى أن يسأل عنها أو يزورها في المناسبات. وانقطع الخيط الذي يربطها بحبيبها بعد أن تمسكت به وظنته أقوى الخيوط فإذا به يخونها ويتخلى عنها حين كانت حاملا بابنتها، واكتشفت أن خيط الحب أوهى الخيوط. وكان الخيط الذي يربطها بزوجها ممزقا منذ البداية لأنه تزوجها زواج مصلحة، وأهملها بعد الزواج لشكه في أن ليندا ليست ابنته، بل ابنة حبيب زوجته الأخضر صلاح الدين، لأنها ولدت بعد سبعة أشهر من زواجه منها.

كانت ليلى تكرهه منذ البداية وحين قبلت الزواج به لم يحاول من جانبه أن يتقرب منها ويكسب قلبها. تعمق كرهها له، لذلك كانت كلما حملت منه يحدث لها نزيف في الشهرين الأولين فيسقط الحمل. حدث ذلك ثلاث مرات، ولم يجد الطبيب سببا عضويا للنزيف فأدرك أنه نفسي لأنها في داخلها لا تريد الحمل من هذا الرجل. ولكنها حملت مرة رابعة وولدت طفلا معاقا ومشوها عاش شهرا واحدا ونصحها الطبيب فيما بعد بتناول حبوب منع الحمل بانتظام كي لا تحمل وتنزف من جديد وتعرض حياتها للخطر، إذ يبدو أنها لا تستطيع إنجاب طفل سليم من هذا الرجل دون وجود سبب علمي واضح يمنع ذلك.

وانقطع الخيط الذي يربطها بصديقتها الحميمة هدى أخت صلاح الدين التي بحثت عنها بعد اختفاء أخيها فلم تجدها. وحين التقت بها بعد سنوات في أحد معارض الفنون التشكيلية، وبختها وعنفتها ورفضت الاستماع إليها، ربما لأن أخاها كذب عليها فوقفت في صفه وهو ظالم. وانقطعت شيئا فشيئا الخيوط التي تربطها بزميلاتها في الجامعة بعد زواج كل منهن ورفض زوجها مصباح أن يقيم علاقة مع أزواجهن. بقي الخيط الوحيد الذي يربطها بابنتها والذي انقطع اليوم .

مسحت دموعها وبدا لها من نتيجة حساباتها أنها خاسرة على كل الأصعدة. وحتى ابنتها التي كانت تظن أنها تعيش من أجلها لا تريدها. اسودت الدنيا في عينيها فأمسكت دفتر الرسائل وقطعت منه ورقة بعصبية كتبت عليها رسالة وداع لابنتها ثم نظرت إلى صورة أمها المعلقة في الغرفة وتذكرت كيف أنها نصحتها ألا تتزوج مصباح إن كانت لا تحبه. وحين علمت أنها حامل لم تعنفها ولم تزجرها بل تعهدت بأن تساعدها وتجد لها حلا للمشكلة، لكنها أصرت على الزواج بعد أن تخلى عنها خطيبها. ساعتها قالت لها أمها:

" عليك أن تعرفي أن هذا الرجل هو نصيبك من الدنيا وعليك أن تقبلي به إلى الأبد. لقد اخترته بحرية وعليك أن تتحملي نتيجة الاختيار".

لكنها لم تستطع أن تحب مصباح ولم يساعدها هو على ذلك. كانت السيدة منيرة أم ليلى تمتص صدمات ابنتها وتصغي بسعة صدر لشكواها المستمرة وتواسيها وتحضها على الصبر وعدم التفكير في الطلاق، وتمنيها بأن الأمور لا بد أن تتحسن فيما بعد. كانت امرأة ذات شخصية جذابة، قوية الشكيمة ومع ذلك فهي هادئة ومتسامحة وعطوفة على كل من حولها. ولطالما غفرت لزوجها علاقاته النسائية المتعددة وتغاضت عن أخطائه ولم تحدث القطيعة معه. 

وحين ماتت بسرطان الكبد لم تجد ليلى من تشكو إليه همومها. وإن وجدت لم تلق من يحضها على الصبر من أجل ابنتها بل يقال لها: "فكري في نفسك واطلبي الطلاق"، ولكن ماذا تفعل بالطلاق الآن بعد أن أصبحت حياتها فراغا قاتلا؟ لم تجد حلا سوى أن تذهب إلى أمها فهي الوحيدة التي تفهمها وتساعدها.

قالت ليلى وهي تحمل صورة أمها وتخاطبها بأسى:

"سامحيني يا أمي فلم أستطع أن أكون في صبرك وقوة احتمالك. أنا ضعيفة وفاشلة، حياتي كلها سلسلة من الإخفاقات. نصحتني ألا أتزوج من مصباح إن كنت لا أحبه، ولكنني تزوجته نكاية بمن تخلى عني ونكاية في نفسي. كنت أظن أنني سأوفر على الأقل حياة سعيدة وهانئة لطفلتي ولكنني كنت مخطئة فلم أستطع أن أحقق لها ذلك فابنتي تكرهني وتسخر مني. وحتى من تخلى عني وخانني وسبب تعاستي يلوث الآن سمعتي ويتهمني بالخيانة على صفحات الجرائد والمجلات. اشتقت إليك يا أمي، أنا بحاجة ماسة إليك وإلى حبك وحنانك، لم أعد أحتمل المكوث هنا فلا أحد يحبني ولا أحد يحتاج إلي. سآتي إليك لتمسحي دموعي كما كنت تفعلين دائما". أمسكت علبة المنوم وابتلعت ما فيها مع بضع جرعات من الماء وأضافت:

" ها أنذا آتية إليك يا أمي فضميني إلى صدرك".     

 ثم تناولت الحبوب المنومة فابتلعتها مع الماء".

"القاضية والملياردير" – "الخيط الثامن"

الأسئلة:

1- ما أعراض نوبات الاكتئاب التي كانت تمر بها ليلى؟

2- لماذا كانت النوبة هذه المرة شديدة عليها حسب تشخيص الطبيب؟

3- ماذا كانت نصيحة الأم لابنتها؟ وماذا حدث لليلى بعد فقدان أمها؟

4- كيف كانت علاقتها بأبيها؟ وكيف كانت علاقتها بزوجها وابنتها؟

5- هل كان تشخيص الطبيب صحيحا؟ وإن لم يكن صحيحا ما أسباب كآبة ليلى في نظرك؟ ولماذا زهدت في الحياة؟

6- ما دور كل من الأهل والأصدقاء في منع الاكتئاب أو حدوثه؟

7- بين الفرق بين شخصية ليلى وشخصية أمها من خلال ما ورد في النص.

8- ما أسباب الاكتئاب في هذا العصر؟ عددها وبين أهمها في نظرك؟

9- ما العلاج الفعال للاكتئاب في نظرك؟ هل هو في الأدوية التي يصفها الطبيب النفسي أم بإحاطة المكتئب بالحب والرعاية ومساعدته على مواجهة مصاعب الحياة بشجاعة؟ علل إجابتك؟